قلة من الأسماء في عالم السينما يتردد صداها بنفس القوة والتأثير والشغف والرؤية مثل اسم، يوسف شاهين، ليس فقط باعتباره أيقونة في عالم الإخراج، بل على اعتبار أنه مدرسة فنية متكاملة تشمل الإخراج والسيناريو والإنتاج والتمثيل وفن التصوير واكتشاف المواهب الشابة ومنحها بطولات في أفلام شاهين أو جو كما كان يحب أن ينادى، وُلد شاهين عام 1926 في مدينة الإسكندرية بمصر، على البحر الأبيض المتوسط، وكان دخول شاهين إلى عالم الأفلام نقطة تحول مهمة للسينما العربية والعالمية، حيث كان يمثل جسراً يربط الأفكار السينمائية الخاصة وفكرة تناول قضايا محلية مصرية وعربية ونشرها عالمياً.
المراحل المبكرة
بدأت رحلة يوسف شاهين السينمائية حين انتقل إلى الولايات المتحدة لدراسة التمثيل في مسرح باسادينا. وهناك استوعب تقنيات وجماليات السينما الغربية، لكن قلبه كان دائمًا ملكًا لمصر، وعاد لنقل ثمرة ما تعلمه إلى السينما المصرية، كانت أفلامه المبكرة انعكاسات مؤثرة لمجتمع سريع التغير تتصارع فيه الأصالة مع المعاصرة. مثل بابا أمين، ابن النيل، صراع في الوادي، صراع في النيل، ودعت حبك.
كسر الحدود والقواعد
لم تكن أفلام شاهين مجرد أفلام. لقد كانت تعليقات اجتماعية عميقة، يعد فيلم”باب الحديد”، الذي صدر عام 1958، مثالاً على براعته، حيث منح الجمهور نظرة عن قرب، وأحياناً غير مريحة، على جوانب المجتمع المصري، كما أنه يجمع بين الواقعية الاجتماعية والفن العميق، كانت موهبته تكمن في القدرة على سرد القصص المحلية بعمق بجاذبية عالمية بالإضافة إلى براعته في أداء شخصية قناوي، لتأتي النقلة الكبيرة في فيلم “المصير” للنجم نور الشريف والذي جسد من خلاله شخصية العالم الجليل ابن رشد، ليكشف شاهين من خلال الفيلم، التعصب والتطرف الديني للجماعات التكفيرية.
مناصرة الحرية ومحاربة الفساد
فيما قد يخجل العديد من الفنانين من الدخول في حالات من الجدل، نجد أن شاهين دأب على الجدل، فقد تناولت أفلامه دوماً المحرمات السياسية والاجتماعية، حيث قدمت انتقادات لاذعة للسلطة الفاسدة وأكدت على الحاجة إلى حرية حقيقية في التعبير. واجه رقابة وحظراً وضغطاً سياسياً هائلاً، لكن رؤية شاهين كانت ثابتة. وأظهرت أفلام مثل: العصفور، عودة الابن الضال، حدوتة مصرية، المهاجر، اليوم السادس وغيرها جرأته والمسافات الطويلة التي عليه أن يقطعها لحماية نزاهته ورؤيته الفنية.
إطلاق مواهب جديدة
شاهين لم يكن مجرد مخرج، لقد كان أيضًا مصدر جذب للموهبة ومعلماً، ومؤسسة فنية تشع إبداعاً وطاقة فنية بلا حدود، قدم النجم عمر الشريف من خلال صراع في الوادي، أمام سيدة الشاشة فاتن حمامة، لتكون هذه بداية مسيرة النجم المصري العالمي عمر الشريف اللامعة، أولاً في السينما العربية ثم في هوليوود لاحقًا. لكن عمر الشريف لم يكن الموهبة الوحيدة التي رعاها شاهين، يدين العديد من الممثلين وكتاب السيناريو وصناع الأفلام لشاهين بفضل توجيهاته، فقد كان لديه موهبة في تحديد المواهب الخام ومنحهم منصة للتألق، ليثري السينما العربية بمواهب لمعت في كافة المجالات الفنية مثل يسري نصر الله، زكي فطين عبدالوهاب، أحمد محرز.
الاعتراف والتأثير العالمي
لم تكن أهمية شاهين محدودة في مصر أو العالم العربي، فقد تم تكريمه في عدد من أكثر المهرجانات السينمائية شهرة في العالم، لم يكن حصوله على جائزة الإنجاز عن مجمل الأعمال Lifetime Achievement في مهرجان كان السينمائي عام 1997 مجرد تكريم شخصي بل اعتراف بثراء السينما العربية، لأحد ـهم رموزها الفنية، كان هذا اعترافاً بقصص ونضالات وانتصارات ثقافة ومنطقة بأكملها.
الإرث والمساهمة
للأسف، شهد عام 2008 نهاية حقبة برحيل شاهين، تاركاً أكثر من 40 فيلماً. الأكثر من ذلك، ترك إرثاً من المرونة والإبداع والالتزام بالحقيقة وتجسيدها سينمائياً، كان عاشقاً للسينما والعمل لساعات طوال والتدخين بشراهة حتى اكتمال العمل ليترك للناس إرثاً فنياً ضخماً، غير وجهة السينما العربية، ووضعها على خريطة العالم، ولا تزال أفلامه تلهم صناع الأفلام على مستوى العالم.
وما يؤكد على عمق مساهمة شاهين في السينما أن نعي أنه قدم ما أكثر من مجرد صناعة الأفلام. كان يسرد قصصًا مهمة، وتحدث بلسان من لا صوت لهم، كما دافع عن المهمشين، وفي أثناء ذلك، غيّر بنية السينما العربية والعالمية.
تكمن عبقرية شاهين في قدرته على استخلاص المشاعر والتجارب البشرية العالمية، مما يسمح للجمهور، بغض النظر عن خلفيتهم، برؤية جزء من أنفسهم في شخصياته، من شوارع الإسكندرية الصاخبة إلى أُبهة المهرجانات السينمائية الدولية، تعد رحلة شاهين السينمائية شهادة على شغفه الدائم والتزامه الراسخ بسرد القصص على الطريقة الشاهينية.
نبذة عن الكاتب:
هبة الله المنصوري، كاتبة إماراتية، حاصلة على ليسانس كلية الآداب قسم فلسفة، علم اجتماع، علم النفس، جامعة بيروت التابعة لجامعة الإسكندرية، دورة في الإعلام ومجال التسويق والاتصال، مؤسسة البيان للصحافة والطباعة والنشر، رئيساً تنفيذياً لشركة BIZ COM للاستشارات الإعلامية. إضافة إلى دورها القيادي في الشركة، شاركت المنصوري في تأسيس مينانيوزواير MENA Newswire ، وهي شركة مبتكرة في مجال التكنولوجيا الإعلامية، والتي تعمل على تحويل نشر المحتوى من خلال نموذج المنصة كخدمة. وتساهم المنصوري في الاستثمار في نيوزي Newszy ، مركز توزيع الأخبار والذي يعمل بالذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ذلك، فهي شريكة في Middle East & Africa Private Market Place (MEAPMP)، وهي منصة إعلانات (SSP) المستقلة الناشئة في المنطقة ، تحاول اكتساب خبرة في مجال التسويق الرقمي والتكنولوجيا.